صمتُ الفقدِ 

صمتُ الفقدِ 

  • الإثنين 18 أغسطس 2025
  • 01:37 PM


الملتقى  / أمل منصور المسروريه 
سلطنة عمان __ جعلان بني بو حسن 

 

رنَّ جرسُ الحصةِ الخامسةِ ، فكانتْ كعادتها ملتزمةً بالوقتِ ، فانطلقتْ بحقيبتِها المثقلةِ بالدفاترِ والهدايا البسيطة والألوانِ ، بعد أربعِ خطواتٍ من المشي وهي تُلوِّحُ لزميلاتِها بالإسراعِ لحصصهن ، أقبلتْ طالباتُها الصغيراتُ يتدافعْنَ بضحكاتٍ لحملِ الأغراضِ من يديها ؛ لأنها بمثابة الأمِّ لصغيراتها بحنانِها ولطفها ، إذْ بهاتِفِها الذي وضعتْهُ على المكتبِ يَرِنُّ ، تساءلتْ في نفسِها : أُكملُ طريقي للحصةِ أمْ أرجِعُ لأرُدَّ على المتصل ، العملُ أهم من حياتي الشخصية ، خطوتان وشيءٌ ما يجذِبُها للرجوعِ للهاتف ، أعتقدُ أنه اتصالٌ مهمٌ؛  لأنه أعاد الاتصالَ مرة أخرى ، حَدَّثتْ المُتَّصلَ: مرحبًا ، ليقولَ لها : خُذي كاملَ أغراضك وتعالي معي فالسيارةِ حالا ، ماذا ؟ ما الذي حدث ؟ أقفل الخط ، رمتْ هاتفها لتنظُرَ لزميلاتها ، فاهٌ مفغرٌ ، وجسدٌ يرتعش ، وألوانٌ من الذعر لطَّختْ بِشرِها، وأخذت تدورُ ماسكةً رأسها بكلتا يديها، مَنْ تبقى في الغرفة أقبلْن مُسرعاتٍ ليسْأَلنَها عن الخطب ؟ ردَّتْ بلهجةٍ تائهةٍ لا أدري، سأذهبُ الآن الآن ، واللهُ المستعانُ عمَّا ينتظرني ، انتبِهنَ لطالباتي فهذه هي حصتي معهن وأخشى أنْ يُسبِّبنَ إزعاجا في المدرسة ، الكل يوصيها : آسيا ، آسيا انتبهي لنفسك ، بإذن الله الأمرُ خير ، هرولتْ بالركضِ في السلمِ ، وكأنها مسيَّرةٌ إلى قَدَرٍ آخر لم تتخيله يومًا ما ، انطلقتْ في مرجوحةِ اللاوعي ، فثُلةُ إدراكِها أن الطريقَ إلى الخارج في هذا الاتجاه ، وحينما اقتربتْ من البابِ الرئيسي للمخرجِ اِشتدَّ حَدَسُهَا أنَّ ما ستسمعهُ مُحزِنٌ ، تمنَّتْ لو أنَّ الأرضَ انشقَّتْ وبلعَتْها قبل أن تصْعقُها الفاجعةُ ، غفيرٌ من الناس يدخل ويُغادرُ بسيارته التي يُصارعُ بها بقيةَ المركباتِ في المواقف ، وهي مع ذلك لمْ تَأْبَهْ لهذا الأمر ، مضتْ في سيلٍ من الإكراهِ والإعياءِ لغايتها ، جُلَّ تركيزِها أنَّ أمرَ الاتصالِ جَلَلٌ ، فتحتْ بابَ السيارةِ بِقوةٍ ، ورمتْ نفسها في المقعد ، وعيناها تُمحلقانِ في السائقِ الذي اِندسَّ برأسِهِ في مقودِ السيارةِ ، وكأنه يحتضنُ عزيزًا لنْ يرَهُ مرةً أخرى ، مرتْ الدقائقُ ولم ينبسَّ أحدَهما ببنتِ شَفة ، استجمعت قُواها وبادرتْ لتسأله : لا تقلْ أنَّ زوجي أصابه مكروهٌ ! ليرد عليها بدون مقدمات : البقية في حياتك ، لا تتذكَّرُ حينها ماذا قالت ، وكيف تصرفت ، ولمَ صبرت ، أردتُ إكمالَ القصةِ في المكتبةِ ، فتنهَّدتْ إحدى الجالساتِ بحسرةٍ بأنها صاحبةُ القصة ، فسألتْها زميلتنا : لِمَ لمْ تذكري لنا قصةَ وفاةِ فقيدِكِ في السنواتِ الماضية ، وآثرتي أنْ تكتبي مقالًا مجهولًا هويَّتُهُ في المجلة ؟ فأجابت : لمْ يكن بوسعي أنْ أُعبِّرَ عن ألمِ الفقدِ فيما مضى ، فالوجعُ الذي انتابني لحظةَ سماعِ وفاتِه ، والجمرةُ التي أشعلها الخبر فانكوى بها قلبي ، ألجمَتْ كلماتي عن البوحِ بما يختلجُ بداخلي ، كنتُ أتجنَّبُ نظراتِ الشفقةِ والمسكنةِ في عيونكن إذا تحدثتُ ، تقدَّمتْ لتضعَ يديها على الطاولةِ وقالت : عمَّ أتحدث ؟ عن الدموعِ التي تحجَّرت لشدة الحزن ، أم المشاعرُ التي انخمدتْ ثورتُها فباتتْ فارغةً من الحياةِ ،  أم عن الصمتِ الذي يلفُّكَ فجأةً والأنامُ تحكي عن قوتك في ذاك الموقف ، غيرَ مُدركين أن الحزنَ بذاك الهدوءِ قدْ بلغَ شأوَهُ ، والولهُ للفقيدِ كسكينٍ تجرحُ المُحبَّ حينا يمرُّ طيفه ، فالخبرُ كغصةٍ تُلازِمُ الفقيدَ حينما يُحاوِلُ أن ينغمسَ في ألوانِ الحياة ، وحينما يسدِلُ الليلُ ستارهُ ، تنسدلُ معه أرديةَ الهمِّ والوجعِ والحسرةِ ، لتختمَ جلستنا: الله لا ابتلاكُم بموت من تحبون ، وجميعنا ردَّدْنا بهدوءٍ آمين يارب العالمين .

 

 

اشترك الآن في النشرة الإخبارية

نشرة اخبارية ترسل مباشرة لبريدك الإلكتروني يومياً

العوده للأعلي