الملتقى / نورة القحطاني
في عالم يمتلئ بالضجيج والاتصالات السريعة، تكشف لنا التجارب أن بعض العلاقات لا تتجاوز كونها أرقامًا محفوظة في الهواتف. وحين تنتهي المصالح، ينكشف الغطاء وتظهر الحقيقة الصامتة: أن الصديق لا يُقاس بعدد المكالمات، بل بصدق الوفاء. من هنا تبدأ حكاية “إبراهيم” مع أرقامٍ صامتة كشفت له المعنى الأعمق للعلاقات الإنسانية.
لم يكن الهاتف بين يديه سوى مرآة صغيرة تكشف له وجوهًا كثيرة عبر الأرقام، لكن الغريب أن تلك الوجوه لم تظهر إلا في مواسم الحاجة. كانت الرسائل تتقاطر كالمطر حين يملكون غاية، وتنقطع كالجفاف حين تُقضى حاجاتهم.
كانوا يبدؤون مكالماتهم بكلمات ودودة، لكن سرعان ما ينكشف أن السلام مقدمةٌ لطلب، وأن السؤال عن الحال لم يكن سوى جسرٍ للوصول إلى غايتهم. وحين ينالون مبتغاهم، يغلقون الخط سريعًا، تاركين وراءهم فراغًا أبرد من الصمت.
مرت الأيام، وتكررت المواقف حتى أيقن "إبراهيم” أن مكانه في حياتهم لم يكن قلبًا ولا ذاكرة، بل مجرد خانة محفوظة في قائمة “جهات الاتصال”. خانة يُستدعى منها اسمه وقت الحاجة، ويُعاد إليها في أدراج النسيان بعد أن ينتهي الدور.
جلس ذات مساء يتأمل هاتفه، فابتسم بصفاءٍ غريب وقال لنفسه:
“وداعًا لمن جعل العلاقة طريقًا من اتجاه واحد، ووداعًا لمن غاب حين لم يجد عندي ما ينفعه. إنهم لم يخذلوني بقدر ما كشفوا لي حقيقتهم.”
أغلق الهاتف هذه المرة بلا أسف، فقد أدرك أن خسارة من لا يعرف قيمتك ليست خسارة على الإطلاق، بل هي مساحة فارغة تُمهّد لوجوه أصدق وأنقى.
وفي زمن تتسارع فيه الاتصالات وتضج فيه الهواتف بالتنبيهات، يظل معيار العلاقات الحقيقية ثابتًا لا يتغير. فالمودة الصادقة لا تُقاس بعدد المكالمات ولا بكثرة الرسائل، بل بصدق الحضور وقت الحاجة، وبالوفاء حين تغيب المصالح.
لقد كشفت لنا الحياة أن الذين يطرقون أبوابنا من أجلنا، لا من أجل ما عندنا، هم الثروة الحقيقية التي لا تقدر بثمن. أما البقية، فلا يتجاوزون كونهم أسماءً عابرة في قائمة طويلة، تختفي مع أول تحديث أو تغيير في الأرقام.
ولعل الدرس الأهم أن نُحسن اختيار من نُبقيهم في دائرة قلوبنا،
لا في دائرة “جهات الاتصال” فقط. فالعلاقات ليست موجة تركبها المصلحة وتذهب مع التيار، بل هي مصدر دفء وسند يستمر مهما تبدلت الظروف