ضبط النفس بين الشهوة والعقل

ضبط النفس بين الشهوة والعقل

  • الأربعاء 10 أغسطس 2025
  • 02:18 PM


الملتقى / د. طالب بن خليفة الهطالي    


ضبط النفس ليس شعارا أخلاقيا يرفع عند الحاجة، بل هو مهارة وجودية تحدد من يكون الإنسان حين تشتعل دواخله في أعماق كل واحد منا ساحة معركة خفية لا ترى ولا تسمع، لكنها تترك آثارا بالغة على قراراتنا وسلوكياتنا وعلاقاتنا، وهناك في الداخل يصطدم الغضب بالحكمة، وتتنازع الرغبة مع الضمير، ويتجاذب العقل والشهوة زمام الفعل، فمن يمسك هذا الزمام حين يتفلت لا يقال له ساكن بل سيد، هذا هو ضبط النفس فن الإمساك بالنفس لحظة الانفجار ليس بخنقها بل بتوجيهها.

لم يقدم النص القرآني هذا المفهوم بوصفه ترفا أخلاقيا، بل جعله ركنا في طريق النجاة قال الله تعالى: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾ وفي موضع آخر قال سبحانه: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ﴾، فجمع بين الحبس الواعي للغضب، والعفو الكريم بعده، إذا الحبس هنا ليس قهرا بل تحكما؛ كمن يربط جواده لا ليحبسه، بل لئلا يدهسه، والنبي ﷺ حين قال: «ليس الشديد بالصُّرَعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب»، أعاد تعريف القوة، لا فيمن يصرع غيره، بل فيمن لا تصرعه نفسه.

هذه الرؤية ليست حكرا على الدين، بل نجد جذورها أيضا في الفلسفة الكلاسيكية، خاصة في فكر أفلاطون وأرسطو، فقد رأى أفلاطون في كتابه الجمهورية أن النفس العادلة تقاد بالعقل، ويخضع لها الغضب والشهوة، واعتبر هذا الضبط الداخلي جوهر العدالة الأخلاقية؛ أما أرسطو فقد بيّن في كتابه الأخلاق إلى نيقوماخوس أن الفضيلة هي التوسط بين رذيلتين، وأن الاعتدال المدعوم بضبط النفس هو ما يحفظ الإنسان من الانزلاق إلى التهور أو الجمود، وفي كلام العرب ما يشير إلى هذا المعنى: "إذا المرء لم يملك غضبه، أورده موارد الهلكة"، في إشارة إلى أن النفس إذا لم تُضبط قادت صاحبها إلى الخسران.

أعاد علم النفس الحديث طرح هذه الفكرة من بوابة التجريب والملاحظة العصبية، فالمصطلح الذي يعبر عن ضبط النفس علميا هو "التنظيم الذاتي" (Self-regulation)، وهو قدرة الإنسان على إدارة انفعالاته ودوافعه ضمن أهدافه طويلة المدى، ومن أحد أشهر التجارب التي أثبتت أهميته كانت "اختبار المارشميلو"، حيث وُضع أطفال أمام حلوى صغيرة وقيل لهم إنهم إن لم يأكلوها الآن فسينالون مكافأة أكبر بعد قليل، فمن استطاع الانتظار تبيّن لاحقا أنه يتمتع بمستوى أعلى من التحصيل الدراسي والنجاح في الحياة، الأمر لم يكن عن الحلوى بل عن الانتصار على الرغبة الفورية، وهذا يؤكد أن ضبط النفس ليس فقط مسألة أخلاقية وإنما مهارة قابلة للتعلم والتدريب.

إن الواقع المعاصر يجعل من هذه المهارة أكثر صعوبة وأشد ضرورة في عالم سريع، متخم بالمثيرات تتعرض النفس البشرية لعشرات المحفزات الانفعالية في اليوم الواحد، وصورة تستفز الغريزة وتعليق يثير الغضب، إعلان يوقظ الطمع رسالة تثير التوتر، وكلها تطالب بردّ فعل فوري. في السابق كان الإنسان يتلقى المؤثر ثم يتأمل، ثم يردّ، أما الآن فالمثير يسبق التأمل والردّ يسبق الوعي، وهذا التسارع لا يمنح النفس فرصة للفرملة، ولذلك تُصبح غلبة الانفعال هي القاعدة وضبط النفس هو الاستثناء. في هذا السياق، يتحول ضبط النفس من مجرد فضيلة إلى ضرورة وجودية، فمن لا يستطيع ضبط نفسه قد يخسر صداقة في لحظة غضب، أو يفقد فرصة بسبب ردة فعل متسرعة، أو يندم على كلمة طائشة تدفعه إلى عزلة طويلة، وعلى المستوى الصحي فإن فقدان السيطرة على الانفعالات يرتبط بارتفاع ضغط الدم، واضطرابات النوم وتدهور العلاقات الاجتماعية،الأمر إذا ليس مجرد تهذيب سلوكي بل يتعلق بجودة الحياة كلها.

الإنسان الذي يضبط نفسه لا يقال إنه فقد مشاعره، بل إنه صار يمتلكها، فهو لا ينكر الغضب، لكنه لا يتركه ينطق باسمه، ولا يُنكر الشهوة، لكنه لا يسمح لها بأن تحدد له المسار، فمن كان سيد نفسه، لم يستعبد لأحد، ومن تحرر داخليا صارت الدنيا بكل صخبها لا تزعزع سكينته، ويمكن القول إن ضبط النفس ليس قيدا يحبس فيه الإنسان، بل هو المفتاح الذي يحرره من عبودية اللحظة في زمن يكافأ فيه الصخب ويستحسن فيه الردّ الفوري، وتظلّ السيادة الحقيقية في يد من يتأنّى يصمت ثم يراجع ثم يختار. هذا هو الإنسان الذي نحتاجه لا يندفع حين يُستفز، ولا يصرخ حين يُستثار، ولا يُشبع كل ما يطلبه الجسد، بل يعرف أن بعض الانفعالات تُسكَت لا ضعفا، بل حكمة، وبعض الرغبات تُؤجّل لا حرمانا، بل ارتقاء، لأن الحرية الحقيقية لا تعني أن أفعل ما أشاء، بل أن أستطيع أن لا أفعل حين يكون الفعل خيانة لذاتي.

ومن تأمل حال العظماء الذين غيّروا مجرى التاريخ، وجد أن أحد أسرار تأثيرهم لم يكن في غزارة الكلام، بل في توقيت الفعل، وفي سَعة الصدر، وفي اتزان القرار تحت الضغط. كانوا يعرفون أن الغضب يقتل الحكمة، وأن التسرع يضرب في عمق الثقة، وأن من لا يضبط لحظته، قد يخسر سنيّ عمره، وإن أعظم ما يملكه الإنسان ليس قدرته على الرد، بل قدرته على التراجع عندما يكون الرد استجابة لغضب لا صوت عقل، ولهذا فإن بناء الذات يبدأ من الداخل لا من اللسان ولا من العضلات، بل من وعي متأصل بأن السيادة على النفس هي أعظم انتصار يمكن أن يبلغه المرء ولو لم يصفق له أحد.

 

 

اشترك الآن في النشرة الإخبارية

نشرة اخبارية ترسل مباشرة لبريدك الإلكتروني يومياً

العوده للأعلي