الليل... وصحبة هموم

الليل... وصحبة هموم

  • الإثنين 29 سبتمبر 2024
  • 12:33 PM

 

 

 

الملتقى / عبدالرحمن بن عبدالله اللعبون 

 

للمتنبي حكاية مع الحمى، ووصفها بوصف لا يجيد حبكه إلا أمثاله.
وَزائِرَتـي كَـأَنَّ بِهـا حَـيـاءً
فَلَيـسَ تَـزورُ إِلّا فـي الظَـلامِ
بَذَلتُ لَها المَطـارِفَ وَالحَشايـا
فَعافَتهـا وَباتَـت فـي عِظامـي
وتطرق فيها إلى معاناته مع ليله الطويل بسببها بتشبيه في منتهى الروعة، يظهر فيها كراهة الحمى لمفارقته، وكأنه كما يقولون حب من طرف واحد.
كَأَنَّ الصُبـحَ يَطرُدُهـا فَتَجـري
مَدامِعُـهـا بِأَربَـعَـةٍ سِـجـامِ
أُراقِبُ وَقتَها مِـن غَيـرِ شَـوقٍ
مُراقَبَـةَ المَشـوقِ المُستَـهـامِ
وَيَصدُقُ وَعدُها وَالصِـدقُ شَـرٌّ
إِذا أَلقاكَ فـي الكُـرَبِ العِظـامِ
أَبِنتَ الدَهـرِ عِنـدي كُـلُّ بِنـتٍ
فَكَيفَ وَصَلتِ أَنتِ مِـنَ الزِحـامِ
الحديث عن هذه القصيدة يطول بما تحمله من جماليات تستحق دراسات تجلي الإبداع الذي ينساب من عموم قصائد أبي الطيب، والليل ومعالجات السهر وجفاء النوم كان كذلك محط ذكر العديد من الشعراء، ووصف همومهم وما تحمله الليالي غير المنقضية من معاناة وكبد، تقف فيه اللحظات ساكنات، وليس كما يصفها البعض أنها تمر كمرور النسيم، فهذا امرؤ القيس في معلقته التي يبدؤها بقوله:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
بسقط اللوى بين الدخول فحومل
يبدي همومه ويظهر شجونه ويبيح مكنونات أظنه ظل طويلا يكتمها حتى ضاق صدره عن إخفائها، ولا بد للمصدور أن ينفث:
ولَـيْـلٍ كَـمَـوْجِ الـبَـحْـرِ أَرْخَـى سُـدُوْلَـهُ
عَـلَيَّ بِـأَنْـوَاعِ الـهُــمُــوْمِ لِـيَـبْـتَـلِي
وكما عانى بعده المتنبي من الإقامة المقيتة للحمى طوال ليله، تضجر امرؤ القيس من تباطئ مسير ليله.
فَــقُــلْــتُ لَـهُ لَـمَّـا تَـمَــطَّــى بِـصُــلْــبِـهِ
وأَرْدَفَ أَعْــجَــازاً وَنَـــاءَ بِــكَــلْـــكَــلِ
ألاَ أَيُّـهَـا الـلَّـيْـلُ الـطَّـوِيْــلُ ألاَ انْـجَـلِــي
بِـصُـبْـحٍ، وَمَــا الإصْـبَـاحُ مـنِـكَ بِأَمْثَلِ
فَــيَــا لَــكَ مَــنْ لَــيْــلٍ كَــأنَّ نُــجُــومَــهُ    
بــكــل مُــغــار الـفــتـل شُــدّت بـيـذبل
كَـأَنَّ الـثُـرَيّــا عُـلِّـقَــت فـي مَـصـامِــهـا    
بِــأَمْــرَاسِ كَــتَّـانٍ إِلَــى صُــمِّ جَــنْــدَل ِ
ففي تشبيه بليغ يصف الليل وكأن نجومه، التي تأبى أن تسير، قد شدت بأقوى الحبال إلى أصلب الصخور بجبل يذبل، وهذا التصوير البديع سبقه به المهلهل في تعبير رقيق، ومعنى عميق، استقاه من بيئته الجميلة حين يقول:
كأن كواكب الجوزاء عود
معطفة على ربع كسير
فهنا كناية لطيفة من المهلهل عن طول الليل، وعدم تحرك الجوزاء، وبقائها ثابتة في مدارها، وعدم تجاوزها مكانها، فشبهها بالنياق التي عطفت على حوار كسير لا يستطيع حراكا، ولم يكتف الشاعر من تباطئه لحركة الليل حتى ثنّى بإلحاق الجدي بالجوزاء، بوصفه بالأسير الذي لا يملك حولا ولا قوة.
كأن الجدي في مثناه ربق
أسير أو بمنزلة الأسير
أما النابغة الذبياني فمر بما قاساه الآخرون، ووثق المعاناة بريشة فنان، فرسم لوحة ليل كئيب مظلم، ولكنها مشرقة بإبداع الوصف زيّن بها قصيدته.
كليني لِهَمٍّ يا «أُميمةُ» ناصبِ
وليلٍ أُقاسيهِ.. بطيءِ الكواكب
تطاولَ.. حتى قلتُ: ليس بمُنْقَض
وليس الذي يرعى النجوم بآيب
وصدرٍ أراحَ الـليلُ عـازبَ هـَمِّهِ
تضاعف فيه الحزنُ من كل جانِب
فهو يبث همه لابنته أميمة، فيصف الليل بتصوير كواكبه بالتثاقل عن الحركة، ويعيب على راعي النجوم الذي يسوقها، ويقصد بذلك الفجر، أنه ذاهب وليس براجع ليسوق النجوم، ولن يقوم بمهمته في تبديد الظلام، فالليل يجمع الهموم والنهار يفرقها.
أراح الله ليالينا من الهموم
وملأ نهارنا بالسعادة.

 

 

اشترك الآن في النشرة الإخبارية

نشرة اخبارية ترسل مباشرة لبريدك الإلكتروني يومياً

العوده للأعلي