آفاق التأمل الذاتي وانعكاساته

آفاق التأمل الذاتي وانعكاساته

  • الإثنين 29 يوليو 2024
  • 08:28 PM

صورة المقال للفنانة / حصة العصفور

 

 

بقلم: أسماء العنزي

 


هناك من يقول إن التأمل ما هو إلا خرافة ويكاد يكون نوع من أنواع الرفاهية. ويقول آخر إن  المتأمل مفرط الحساسية تجاه كل شيء من أصوات وحركات، الأمر الذي يصيبه بالقلق. ويقول ابن عربي: ما تخلّل شيء شيئاً إلا كان محمولاً فيه. للتأمل عطر عجيب تحوم حوله فراشات الفكر، تتوغل في فضاءاته، لتتسع المعاني في بحر العبارة وتتناسل منها رؤى كحبات اللؤلؤ الخبيئة في أعماق الذات. 


من منا لم يمتط صهوة التأمل ليجوب فضاءات آفاقه؟!! من منا لم تنتفض مشاعره وهو يتأمل في ممرات ذاته ويسرح في علاقاته مع الآخرين؟!! يبحث في تقييم تفاصيلها، متحسساً مواضع الإيجاب؛ فيؤكد على تأكيدها، ومواضع الخلل؛ فيعمل على معالجتها، والغاية دوماً تتجه نحو اعتلاء سلم الارتقاء حتى يبلغ درجة الصديق الحق، والحبيب الحق، والجار الحق، وكل موضع من مواضع الحق.


فالعلاقات تموت انطفاءً إذا لم تجد من يقيِّم زلاتها ويصحح عثراتها. وهذا لن يتأتى للمرء إلا بتأمل الذات. فالمتأمل لذاته يقبض على النور العالق في عتمة الأنا، ليرسو بسفينة المودة نحو بر الأمان، ويمحق زبد الخصام؛ فيورق الحب، ويزهر الصدق، ويفيض ينبوع الصفاء، ويزهر بستان الوداد الذي تتوالد فيه العلاقات البشرية.


والمتأمل أيضاً يستشعر السكينة والهدوء والصفاء، فيسترجع ذاته التي سلبتها منه رياح الظروف والأوضاع، ويكتسب شعوراً مكللاً بالتناغم والانسجام بين روحه وفكره وجسده، فيتحقق له التوازن، وتنكشف له المعاني العميقة التي تزدان بها ذاته، فيترفع عن صغائر الأمور، ويتجنب العثرات والزلات، ويوجه فكره وروحه ووجده نحو أشياء تعود عليه وعلى أسرته ومجتمعه ووطنه بالنفع الكثير.


ويكون التأمل في أعلى مراتبه حينما يسمو المرء بروحه، لتبحر في ملكوت الله رغبةً في التقرب من مالك الملك ومسير الكون عز وجل. فيستشعر حلاوة مشاعره وهي تلامس روافد الجمال وآيات الله في خلقه، مما يدفعه للتفكر في حال الدنيا، وسرعة زوالها، وعظم فتنتها، وتقلب أحداثها؛ فيتذوق معالم الحكمة والعبرة في كل كبيرة وصغيرة في هذه الحياة بكل مراحلها.


في وقتنا الحاضر يتخذ التأمل أشكالاً وصوراً أخرى، من أبرزها نوادي فن الخطابة، أو ما يطلق عليها باللغة الإنجليزية "التوستماسترز"، فهي تدعو للتأمل الذي يرتقي بالذات من أجل التواصل الفعال مع الآخرين، وهذا النوع من التأمل يستحضر القوة والمهارة في الخطابة، مما يمهد بعد ذلك لإحداث تغييرات إيجابية تنعكس على الفعل والسلوك الإنساني.


فالتوسماسترز ليس ارتجالاً أو سرداً وحسب، بل هو حالة تأمل إنسانية، ذاتية، أوجدتها حكاية الذات كي يحمل مناراتها إلى مراسي الكون، وأخصبته جنائن اللغة كي يزيد عطر ورودها، ووافاه فن الارتجال كي يكمل مشوار ألف بيان وبيان ويعيد الى اللغة مفاتنها،  يعيدها الى تاريخها الذهبي.

التوستماسترز و منبر لدرر الكلام، من هنا إلى كل مكان في هذا الفضاء الرحب، وأنت أيها الحطيب تمد الجسور وتطيب الخواطر وتعصر الحكمة من شفاه التأمل، تنشر عبقها، وتدخل الميادين مزهواً لأنك تحمل فاكهة الفرح إلى العقول والقلوب. فالتأمل بوصلة المتأمل نحو الحرية، حرية الفكر والروح والهدى. وهو قنديل يعلمنا كيف يخطو الحر نحو النجاح مهما تعرجت الدروب .


وفي دراسة نُشرت حديثًا أظهرت أن التأمل له فاعلية تقارب فاعلية العلاج المعرفي السلوكي (CBT) في تخفيف الألم المزمن المرتبط ببعض الحالات مثل: متلازمة الألم العضلي التليفي، والتهاب المفاصل الروماتويدي، والتهاب المفصل التنكسي.

وتقول دكتورة سنام حفيظ الأخصائية النفسية من نيويورك أن ممارسة التّأمل بانتظام يمكنها المساعدة في إعادة إنتاج المسارات العصبية في الدماغ، إذ أوضحت الدراسات أن ممارسة التأمل لمدة 20 دقيقة يوميًا لبضعة أسابيع هي مدة كافية لإظهار الفوائد. وقد وجد باحثون في كندا أول دليل يشير إلى أن مجموعات الدعم المعنوي التي تشجع على التأمل، يمكن أن يغير واقعياً النشاط الخلوي للناجين من السرطان.


وإني هنا لأتساءل:
أوليس التأمل رديفاً للتدبر والتفكر يا أولي الألباب؟ فلِمَ إذن يحرم المرء نفسه من جني سعادة حقيقية وهو يرتقي عالياً في فضاء الذوق والحكمة من خلال تأمله لذاته ومحاسبتها في كل كلمة يقولها وفي كل خطوة يخطوها؟

 

 

 

اشترك الآن في النشرة الإخبارية

نشرة اخبارية ترسل مباشرة لبريدك الإلكتروني يومياً

العوده للأعلي